بالنظرِ إلى ما هو أبعدَ من العملِ الإنساني، يبقى عددٌ كبيرٌ من مجموعاتِ المجتمع المدني ناشطاً في إدلب بهدفِ قيامِ مجتمعاتٍ محليةٍ تعدديةٍ وتشاركية. ويشملُ ذلك الهيئات القائمة على الحوْكَمة مثل المجالس المحلية، وكذلك تلك التي تركزُ على القضايا مثل حقوقِ النساء ومشاريع التنمية المحلية والإعلام. ويؤكدُ الأشخاصُ الذين تمت مقابلتُهم لإعدادِ هذا التقرير مراراً وتكراراً أنَّ رؤيتَهم لسوريا ديمقراطية سلمية تستمرُ في تحفيزِ عملهم.
منذ عام 2013، واجهت مجموعاتُ المجتمعِ المدني هذه على نحوٍ متزايدٍ تهديداتٍ متعددة من أعمالِ التخويفِ والعنف بعدما عززت الجماعاتُ المتطرفةُ مكانتَها بين فِرَقِ المعارضة في المنطقة. والأهم من ذلك، بدأت "هيئة تحرير الشام" الهيمنةَ والسعيَ إلى السيطرةِ على المجالسِ المحليةِ والخدمات والموارد التي سيطرت عليها 10.
على الرغم من أنَّ وجودَ "هيئة تحرير الشام" لا يزالُ مسألةً ذات أهمية وخطورة كبيرة، فإنَّ سيطرةَ الجماعة على إدلب ليست منتظمةً ولا كاملة، إذ نجحت كل من الأتارب وإحسم وأرمناز في إبقاءِ الفصيل المسلح خارج نطاقاتها. كما تمكنت بداما، حيش، الجانودية، وكفرتخاريم وباقي غرب ريف حلب من جعلِ تأثيرِ "هيئة تحرير الشامِ" في حده الأدنى.
وبخلافِ هذا التهديدِ المباشر الذي يصدر عن الفصيلِ المسلح للمجتمعِ المدني في سعيِه إلى السيطرةِ على الموارد، فإن صعودَ الهيئة يقوضُ كذلك آمالَ المجتمعِ المدني في تحقيقِ السلام والاستقرار، ذلك أن وجودَ المسلحين بحد ذاته يوفر ذريعةً لاعتداءات النظام والغارات الروسية.
وقد أكدت كل المصادر في إدلب أنّ السكانَ لا يحبذون وجودَ "هيئة تحرير الشام" في المنطقة، إذ يعتقدُ العديد من أبناء إدلب بأن انتشارَ ذلك الفصيل المسلح يعطي مبرراً للهجماتِ العسكرية ضدهم، وهم على درايةٍ بتأثيرِ ذلك على المساعداتِ المقدَّمة لهم. وخلصت دراسةٌ أجريت عام 2017 إلى أن 77% من الأشخاصِ الناجين لا يوافقونَ على وجود "هيئة تحرير الشام" والمجموعات السلفية الأخرى في إدلب، إذ رفضَ 73% منهم المجالسَ التابعةَ لـ"هيئة تحرير الشام" في المنطقة. وجميعهم تقريباً يعتقدون بأنَّ الهيئةَ مناهضةٌ لأهدافِ الثورة.11
ويُظهرُ تحليلٌ لعددٍ من مجموعاتِ المجتمعِ المدني السوري بحسبِ المناطقِ الفرعيةِ في إدلب، وجودَ علاقةٍ بين عددِ منظماتِ المجتمعِ المدني العاملةِ وعددِ الاحتجاجاتِ المناوئةِ لـ"هيئة تحرير الشام" فيها. فكلما زادَت نسبةُ نشاطاتِ المجتمع المدني ارتفعت قدرتها على مواجهة الهيئة والتصدي لها.
لقد اعتمدت المجتمعاتُ المحلية لردِ تأثير "هيئة تحرير الشام" إلى حدٍ كبيرٍ على قدرةِ مجموعاتِ المجتمع المدني على تنظيمِ احتجاجاتِ الشوارع وأعمالِ المقاومة ضد الفصيل المسلح 12، وغالباً ما يكون ذلك على حسابِ تعريضِ الناشطينَ أنفسهم لخطرٍ كبير. وبالفعل، في 2 آذار/آذار 2018، مُنعت "هيئة تحرير الشام" من دخول الأتارب بفضلِ عشراتِ المدنيين الذين تظاهروا في الشوارع. بعد ذلك أعلنَ رئيس المجلس المحلي التوصلَ إلى اتفاقٍ يقضي بعدمِ محاولةِ المجموعةَ الدخولَ ثانيةً.
لو أرادَ سكانُ إدلب التخلصَ من "هيئة تحرير الشام"، فهم بلا شك بحاجةٍ إلى المساعدة. المجالسُ تتطلبُ التمويلَ حتى تتمكنَ من الاستمرارِ في تقديمِ الخدماتِ الأساسية، وتحتاجُ المنظماتُ المجتمعيةَ الدعمَ لمواجهةِ تأثير "هيئة تحرير الشام"، ويريدُ المتظاهرون تغطيةً إعلامية لحملاتهم؛ ويجب أنْ يكونَ هناك اعترافٌ بحقيقةِ أنَّ المجتمعَ المدنيَ وحدَه لا يستطيعُ أن يفعلَ الكثيرَ بمفرده في مواجهة الجهاتِ العسكرية.
تمكنت "داعش" بسرعة من إقفالِ منظماتِ الإغاثةِ الأجنبية ووسائل الإعلام في مناطق وجودها، مما سمح لها بالسيطرةِ المطلقةِ على المناطق التي تديرها داخل "خلافتها". إذا استطاعت "هيئة تحرير الشام" تقليلَ عددِ المؤثرين الخارجيين والعاملين في مجال الإعلام في محافظة إدلب، ستكون أكثرَ قدرة على إحكامِ قبضتها على المنطقة، ذلك أنَّ التطرف ينمو ويزدهر في الظلام. وتالياً فإنَّ الحفاظَ على حصةٍ مدنيةٍ في المجتمع يسمحُ بـ"بصيصٍ من الأملِ والنور".
تتلقى العديدُ من مجموعاتِ المجتمع المدني هذه في إدلب تمويلاً دولياً، وغالباً ما يكونُ في إطارِ ما يُعرفُ ببرامجِ "الاستقرار" الخاصةِ بالجهاتِ المانحة. كان التمويلُ ثنائياً بشكل أساسي، إذ كانت الجهاتُ المانحةُ الغربية، مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، تمولُ مختلفَ مساراتِ العمل. وكان بين شركاء التنفيذ منظماتٌ مثل "آدم سميث الدولية"، "كرييتف"، الجمعية الألمانية للتعاون (GIZ) وسواها.
ومع ذلك، فإن ضمانَ استقرارِ التمويل وديمومته يتعرضان للتهديد، فقد أفادت منظماتُ المجتمع المحلي بأن الممولين ينسحبونَ بسبب مخاوفٍ من تأثيرِ "هيئة تحرير الشام". وتستخدم المجالسُ والمجتمعاتُ المحلية شبحَ تقليصِ التمويل، أو التقليص الفعلي للتمويل، وسيلةً للتعبئة الشعبية في محاولةٍ لإنهاء سيطرةِ "هيئة تحرير الشام"، على الرغم من أنها تبلِّغُ عن صعوبةِ الحفاظِ على السلطةِ والتأثير عندما تكونُ غيرَ قادرةٍ على توفيرِ الخدماتِ نتيجةِ نقصِ الأموال.
إنَّ إحجامَ الجهاتِ المانحةِ عن توفيرِ التمويل لأنه قد يُفضي إلى إفادةِ "هيئة تحرير الشام"، وإنْ بشكلٍ غير مباشر، أمرٌ مفهوم إلى حدٍ ما. غير أنَّ قطعَ المساعدات عن المجتمعِ المدني يعرِّضُ المنطقةَ لخطرِ زيادةِ تأثيرِ الهيئة بدلاً من القضاء عليه. فمِنْ خلالِ تجويعِ المجتمعِ المدني للأموال، يقللُ المجتمعُ الدولي قدرتَه على التصدي لـ"هيئة تحرير الشام".
وبخلافِ الحملاتِ الواسعة النطاق على تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" من قبل الحكومات الغربية والجهاتِ المانحة الأجنبية، لم تُواجَه "هيئة تحرير الشام" بحملاتِ مكافحةٍ على النحو نفسه. تحتاجُ مجتمعات إدلب إلى المواردِ لمواجهة سيطرة "هيئة تحرير الشام"، لأنه من خلال الحفاظ على الإمكاناتِ التي تمنحها السلطة والقوة في مواجهة تهديداتِ الفصيل المسلح، إلى الدعم السياسي، تستطيعُ رفعَ الصوت ضد المتطرفين. إنَّ تعزيزَ المجتمع المدني وتشجيعه يعني تمكينه من الصمود والتصدي. ما نحتاجه ببساطةٍ هو المزيد من العمل في المنطقة.